إن تنوع الشرق الأوسط بالقوميات والديانات والمذاهب، يمثل ميزة، غير أنها تحولت إلى لعنة الهويات القاتلة، بسبب العنصرية والتعصب الذي كرسته الأحزاب القومية والدينية، ولعبت عليه الأنظمة العسكرية الدكتاتورية المتسلطة، التي تعاقبت على حكم أغلب دوله في العقود السبعة الماضية، وقادت الحياة إلى تطور معاكس، فتت الكيانات والجماعات الوطنية، ومنعت سياقات التطور الإقتصادي والإجتماعي، قبل أن يأخذ العديد من البلدان إلى انقسامات حادة، وتدخلات اقليمية ودولية، وحروب طاحنة من غير الممكن رؤية نهاية قريبة لها.
 
ورغم أن الدول العربية، كانت النموذج الأوضح بين شعوب المنطقة الأربع - عرب وكرد وفرس وأتراك - فإن دولتي الأتراك والإيرانيين، لم تخرجا عن هذا السياق إلا بصورة جزئية، بل يمكن القول أن سلطة الملالي في إيران اليوم، ترسم للإيرانيين أسوأ المستقبلات الممكنة في المنطقة، ليس بفعل سياساتها الداخلية المدمرة، إنما أيضاً بفعل سياسات، تقود المنطقة كلها نحو دمار كامل نتيجة تدخلاتها المتعدد الأشكال والمستويات في شؤون شعوب ودول المنطقة.
 
وحدهم الأكراد من شعوب المنطقة الذين، لم تتشكل لهم دولة قومية، لكن لم يعفيهم ذلك من عيش مصير يماثل مصائر الأخرين في البلدان التي توزعوا عليها بصورة أساسية، وهي تركيا وإيران والعراق وسوريا، وقد أضيف إلى ذلك مالحقهم من خصوصيات تتعلق بهم في تلك البلدان، بوصفهم أبناء "القومية الثانية" كما يحلو لأكراد سوريا أن يصفوا أنفسهم.
 
يعيش الكرد في عمق لعنة الهوية القاتلة منذ تبخّر حلمهم في قيام دولة كردية مثل بقية شعوب المنطقة بعد انتصار مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وتراجع الحلفاء عن بنود معاهدة سيفر واستبدالها في عام 1923 بمعاهدة لوزان، التي وزعت الكرد على أربع دول هي تركيا وإيران بالإضافة إلى العراق وسوريا، اللتين كانتا خاضعتين لإنتداب بريطانيا وفرنسا على التوالي.
 
منذ ذاك الوقت، والكرد في صراع مستمر مع حكومات الدول الأربع، والتي خصت الأكراد بسياسة قومية متعصبة متشددة، مما كثف مشاكل الأكراد، فحصدوا الأسوأ من سياسات وممارسات حكومات البلدان، مرة بسبب كونهم مواطنين، وأخرى بسبب كونهم أكراداَ في تلك البلدان، وبدل أن ينفتح الكرد على غيرهم من شعوب تلك البلدان لمشاركتها النضال ضد حكومات وأنظمة شوفينية فاسدة واستئثارية، قادتهم جماعاتهم السياسية إلى العزلة، وقوت بين صفوفهم الخطاب القومي المتشدد، قبل أن تبدأ تلك الأحزاب نهجاً انقسامياً، مالبث أن تحول إلى صراعات سياسية بين الأحزاب، وبلغ حد الصدام المسلح في بعض الحالات، كما حدث في صراع أبرز حزبين في العراق الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني بين عامي 1994 و1998، وفيها سقط ثلاثة آلاف قتيل من الجانبين، وقد تكررت الصراعات السياسية والمسلحة الكردية على نطاق اقل في شمال سوريا في السنوات الأخيرة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وبعض أحزاب كردية، وكان من نتائجها قتل وجرحى ومعتقلين ومهجرين.
 
كرست الصراعات السياسية الكردية - الكردية خطابين مختلفين، ونهجي عمل لم يجن منهما الشعب الكردي في سوريا على الأقل أي نتائج ايجابية على أرض الواقع، وبالرغم توجه المجلس الوطني الكردي لحجز مقعد له ضمن الائتلاف الوطني المعارض، وتمكنه من تثبيت كوتا، تضمن له مقاعد في الهيئة السياسية، وتسمية نائب لرئيس الائتلاف، إلا أنه فشل في الانخراط بالعمل السياسي الوطني ضمن الائتلاف لعدة أسباب أحدها موضوعي متعلق بفشل الائتلاف القائم على مبدأ المحاصصات السياسية، وأخر ذاتي يتعلق بطريقة إدارة المجلس الوطني الكردي لدوره في الائتلاف من حيث عزلته الكردية، وتقديم مصالحه الحزبية على المصلحة الوطنية العامة.
 
وفي الجهة المقابلة، تمكن الاتحاد الديمقراطي الكردي من حجز مكان أوسع له على الأرض السورية، عبر تأسيس الإدارة الذاتية وتشكيل قوات سوريا الديمقراطية، والتي سيطرت على مساحات واسعة وغنية من سوريا، وعلى الرغم من رفعه شعارات المواطنة والحوكمة الرشيدة والديمقراطية التي روج لها في الأوساط العالمية، لم يتمكن الحزب بسبب بنيته العصوبة- السلطوية من تحقيق أي من هذه الشعارات، بل خاض على أرض الواقع تحديات مباشرة في تعامله مع الأكراد والعرب على حد سواء، بعد أن أصدر العديد من القرارات العنصرية التي رفضها الأكراد قبل العرب، منها فرض التعليم باللغة الكردية، والتجنيد الالزامي، وطلب كفيل كردي لأي يشخص يريد الدخول الى المدن والبلدات الخاضعة لسيطرته.
 
ورغم تفرد قوات سوريا الديمقراطية بدعم التحالف الدولي، وبنائها قوة عسكرية منظمة وكبيرة، تمكنت بشكل أو بآخر من القضاء على تنظيم داعش، فقد اثبتت هذه القوة ضعفها وهشاشتها عند أول مواجهة خارجية في معارك شرق الفرات الاخيرة، وخسرت الأرض التي تمددت عليها في السنوت الماضية سواء تلك التي انتزعتها القوت التركية وحلفائها من الجيش الوطني، أو تلك التي تم تسليمها لقوات نظام الأسد بوساطة روسية، مما أدى إلى انحسار وجودها السياسي والإجتماعي بعد خساراتها العسكرية.
 
الآن وبعد كل ما جرى من تجارب، يبدو أنه لم يعد أمام القوى الكردية بتشكيلاتها السياسية والاجتماعية إلا خيار واحد، وهو الخيار ذاته أمام كل شعوب الشرق الأوسط، المتمثل في بناء عقد اجتماعي جديد في كل واحد من بلدان المنطقة بعيداً عن التعصب القومي أو الديني، عقد يضمن ترسيخ الحريات العامة والفردية، وبناء دول القانون والديمقراطية، كل هذا من شأنه أن يفتح نافذة في الأفق المسدود أمام الحلم الكردي بالوصول الى حق تقرير المصير للكرد ولكل شعوب المنطقة، وهذا لن يتم دون وقوف الكرد إلى جانب أشقائهم من شعوب المنطقة في حربهم ضد الاستبداد والتطرف، وقد تكون الموجة الجديدة من الربيع العربي، التي دخل العراق إلى عمقها فرصة حقيقية لإعادة بناء ما أفسدته السنوات الفائتة من علاقات وسياسات.