يعد قرار مجلس الأمن ١٩٧٣ العنوان الرئيسي للأزمة الليبية، وانتشار الفوضى والعنف، نتيجة تناحر الدول الكبرى والقوى الإقليمية على ثروات البلاد، خاصة النفط منها، وتعاني ليبيا من حالة فوضى تعصف بكافة أركانها منذ انطلاق احتجاجات ٢٠١١، و التى أدت في النهاية إلى مقتل الزعيم الليبي الرحل معمر القذافي وسقوط نظامه، بشكل دراماتيكي لاقى دعمًا دوليًا وإقليميًا بارز! 

و من ينظر إلى طريقة استصدار قرار مجلس الأمن ١٩٧٣، وكيفية تنفيذه على الأرض، يعرف أن الهدف لم يكن أبدًا حماية المدنيين الليبيين من نظام القذافي حينها، بل هناك اسباب أهم لكلًا من فرنسا وإيطاليا، حيث اقنع البلدان كل حلفاءهما وأصدقائهما، أن الهدف من القرار يتمثل في منع القذافي من شن طلعات جوية تستهدف الثوار في المدن الليبية، بينما أضيفت فقرة لقرار حظر الطيران، بمثابة بيت القصيد ؛ وهي " على أن تتخذ دول مجلس الأمن القرارات اللازمة لحماية المدنيين"، دون تحديد أو تفسير لحدود وقواعد هذه القرارات. 

ومن هنا استطاع ساركوزي أن يقنع حلفاءه بأهمية الضربات الجوية لحلف شمال الأطلسي " الناتو"، ومدى قانونيتها، وفق الفقرة الأخيرة من القرار، وقد ساعده في المخطط الحكومة الإيطالية، التي رأت أن مصالحها الاقتصادية والنفطية ستتعزز بسقوط القذافي، وإحلال حكومة بديلة أكثر ولاءًا للقوى الاستعمارية القديمة. 

مع هذا المشهد كانت الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابق باراك أوباما و وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون أكثر ترددًا في قرار الحرب؛ خوفًا من تكرار سيناريوهات أفغانستان والعراق، فضلًا عن عدم وجود تهديد أمريكي لمصالحها، بينما كان الدافع الوحيد للرئيس اوباما يتمثل في رغبته بأن يكون مانديلا أو جيڤار المرحلة، بدعمه لمظاهرات ما يطلق عليه " الربيع العربي"، وقد تقاسمت برلين مع واشنطن هذه الرؤية، ولكن في النهاية نجح ساركوزي في توجيه القوى الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي نحو أهدافه، والتي يرى بعض المسؤولين الليبين الكبار في نظام القذافي، أنها كانت شخصية في الدرجة الأولى . 

بينما لم يتمتع الموقف الفرنسي الإيطالي بهذا الانسجام فترة طويلة، حيث أدت فوضى غزو "الناتو" إلى تدهور عام في البلاد، نتيجة تفكك مؤسسات الجيش والأمن، وظهور المليشيات المسلحة ومنها المتطرفة، التابعة لجماعة الأخوان المسلمين و تنظيم القاعدة، و قد برز في هذا الوقت قيادات مسلحة مصنفة دوليًا إرهابية، تدير الشارع الليبي بذريعة حماية الثور !.

دفعت الفوضى وقتها و خروج الأمور عن السيطرة، كلا من الدول الكبرى؛ للبحث عن سبل تمكنهم من حماية مصالحهم على الأرض، فلم يجدوا حلًا أسلم وأسهل من الاعتماد على المليشيات، خاصة بعد انتشار السلاح في ليبيا، سواء المسروق من مخازن الجيش الليبي، أو المرسل من قبل دول خارجية، كانت تلعب دورًا كبيرًا في تجهيز الأرض الليبية لأحداث ٢٠١١.

بدأ الخلاف يظهر واضحًا بين فرنسا و إيطاليا على الكعكة الليبية، بل وصل الأمر لتبادل الاتهامات علنًا، خاصة بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض، حيث أصدر تصريحات كان بمثابة قنبلة موقوته فجرت في وجه فرنسا، حين أعلن في لقاء صحفي، إن الولايات المتحدة تعتمد إيطاليا كمرجعية للغرب في ليبيا، الأمر الذي دفع فرنسا / ماكرون؛ للوقوف في الجهة المقابلة للمجموعة الأوروبية على الأرض، خاصة بعد فشل تحقيق توافق بين فايز السراج رئيس الحكومة وبيّن خليفة حفتر قائد الجيش الوطني في قمتين " باريس/ باليرمو"، ما دفع باريس لدعم عملية المشير خليفة حفتر على طرابلس مع كل من مصر و الإمارات، بل زاد الأمر تعقيدًا انضمام روسيا إلى هذا المحور، ما أدى لتراجع ملحوظ في موقف ترامب من عملية تحرير طرابلس المعروفة باسم " طوفان الكرامة". 

تعد هذه الخلافات بين الدول الكبرى والناتجة عن تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية بينهم، سببًا رئيسيا في استمرار الصراع الليبي حتى الأن، بينما ندر الحديث عن حماية الشعب الليبي من نار الإرهاب، وتناحر المليشيات، واستعادة الأموال المنهوبة، ما يظهر بوضوح عدم احترام الدول الكبرى للقرارات الدولية ذات الصلة، بل يعكس قدرة هذه الدول على استخدام المنظمات الدولية كمجلس الأمن لتمرير سيناريوهاتها الخاصة، بصرف النظر عن مصلحة الأطراف الأخرى، التي تضررت من الحرب .  

رغم ضعف عددها وتعدادها، كان لقطر الدور الأبرز في عملية تدمير وإسقاط الدولة الليبية، الأمر الذي عجز القذافي نفسه عن استيعابه، حيث كانت قطر وأميرها حمد قبل عام ٢٠١١ الأقرب للعاصمة طرابلس منذ التسعينات، وتحديدًا حين دعمت عدة دول عربية انقلابًا على أمير قطر لإعادة والده إلى الحكم، بعد أن انقلب عليه سابقًا، بينما ساند القذافي الأمير حمد ضد الدول العربية، ورفض أن يشارك في هذه العملية، بل قدم كل الدعم المتاح للأمير حمد بن خليفة أل ثاني وقتها، ما دفع البلدين لفتح صفحات جديدة في العلاقات اتسعت لسطور عدة منها محمودة وأخرى مذمومة. 

وكانت قطر قد أنفقت مبلغ ثلاث مليارات دولار على حركة التظاهرات في ليبيا وفق ما أعلنه -عبد الرحمن شلقم- ، وتسليحهم فيما بعد، و ترافق ذلك مع حملة إعلامية شرسة وغير مهنية قامت بها قناة الجزيرة؛ لشيطنة نظام الزعيم الراحل معمر القذافي، بل اتصل الأمير حمد بن جاسم وزير خارجية قطر حينها شخصيًا بمبعوث ليبيا في الأمم المتحدة بعد إعلانه الانقلاب على نظام القذافي وأدانته من داخل المنصة الدولية؛ ليشكره على هذا القرار الصائب -وفق قوله-. 

وقد استخدمت قطر كل أدواتها في تدمير ليبيا سواء إعلامية أو سياسية أو مالية أو عسكرية، ويجب هنا الإشارة إلى فتوة رجل الدين البارز يوسف القرضاوي في قطر، والتي شرعنت مقتل القذافي، وقد وصف هذا الرجل المعروف بتطرفه  الرصاصة التي ستطلق على رأس القذافي في بداية الأزمة بالمباركة، بالإضافة لظهور الإرهابي الدولي عبد الحكيم بلحاج كرمز للثوار رغم اعتقاله من قبل الأمريكان سابقًا، بعد عودته من أفغانستان وتصنيفه ارهابيًا دولياً، بالإضافة للأخوين على وإسماعيل الصلابي المعروفين بتطرفها داخل جماعة الأخوان المسلمين فرع ليبيا، وهذا ما قاله خالد المشري عضو الجماعة بعد أن تولى رئيساً لما يسمى بالمجلس الأعلى الليبي، وأيضًا صلاح بادي المصنف إرهابيًا من قبل المجموعة الدولية، مع العلم أن كل هذه الاسماء تعيش بشكل دائم بين قطر وتركيا وليبيا ويتحكمون في المليشيات المتطرفة على الأرض بدعم قطري تركي معلن.

أما عن الدور العسكري لقطر، فكشف عنه رئيس أركان القوات المسلحة القطرية، اللواء الركن حمد بن علي العطية،خلال اجتماع "لجنة الأصدقاء لدعم ليبيا"،في 26 أكتوبر 2011، حيث كشف العطية عن أن مئات الجنود القطريين شاركوا على الأراضي الليبية في العمليات إلى جانب "الثوار"، وتركز دورهم خصوصاً على التنسيق بين الحلف الأطلسي و"الثوار".‬

و من أبرز أهداف قطر داخل ليبيا، وصول الإسلام السياسي إلى الحكم، حيث يعرف الجميع ولاءات تلك الجماعات لقيادة قطر، وبالتالي وصول هذه الجماعة للسلطة في أي دولة يعني أن هذه الدولة سواء ليبيا أو غيرها خاضعة للوصاية القطرية، بالإضافة لمصالح اقتصادية عدة، فمعروف عن ليبيا الثروات من نفط ومخزون كبير من الذهب والفضة والاستثمارات الخارجية وغيره، فضلا عن الصيد الثمين والمتمثل في محاذاة الحدود الليبية لنظيرتها المصرية، مما يسهل لقطر القيام بعمليات إرهابية تزعزع الأمن القومي المصري على شريط حدود كبير يمتد لأكثر من ١٢٠٠ كم، و هنا يجب الإشارة لتدهور العلاقات المصرية القطرية بعد اسقاط حكم جماعة الأخوان المسلمين المدعومة قطريًا في مصر عام ٢٠١٣، ما دفع الثانية لشن حملة سياسية وإعلامية تستهدف القاهرة ، ما ترتب عليه أن تكون مصر ضمن دول المقاطعة الأربع. ‬

أما عن تركيا و دورها في لبيبا، كانت أنقرة من البداية رافضة لرياح التغيير في لبيبا تحديدًا، بعكس موقفها  في سوريا ومصر، وهذا مرتبط بالعلاقات الاقتصادية القوية جدًا بين لبيبا القذافي وتركيا اردوغان، وقد وقعت أنقرة اتفاقيات اقتصادية تجاوزت قيمتها ٢٥ مليار دولار عام ٢٠١٠، أي قبل الأزمة الليبية بشهور، ما جعلها تشعر أن سقوط القذافي يمثل ضربة قاسية لاقتصادها، وبالتالي رفضت أن تكون جزء من حملة "الناتو" على ليبيا، كما رفضت الاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي في بداية الأمر، حتى استطاعت قطر إقناعها بأهمية دعم السلطات الجديدة في لبيبا، حفاظًا على مصالحها الاقتصادية والسياسية، وبالفعل استجابت أنقرة للمعطيات القطرية، وبدأ التدخل التركي في ليبيا عبر مصراته، نظرًا لتمتع هذه المدينة بروابط اجتماعية كبيرة مع الأتراك، وبدأت عمليات تسليح المليشيات الليبية بأسلحة تركية، دون مراعاة لقرار مجلس الأمن ذات الصلة، حتى وصلت حكومة السراج للسلطة بدعم دولي وليس شرعي، كما يدعي البعض، ومع عملية تحرير طرابلس بدأت تركيا في إعلان دعمها لفائز السراج، وقد أرسلت تركيا عددًا كبيرًا من طائرات مسيرة على متن طائرة " أونتنوڤ" التركية، ثم ٤٠ مدرعة تركية على متن سفينة " أمازون" الشهيرة، وهنا يجب الإشارة لإعلان السلطات اليونانية إلقاء القبض على سفينة تركية محملة ب٥٠٠ طنًا من المواد المتفجرة كانت في طريقها إلى ليبيا، بل وصل الأمر لوجود غرفة عمليات تركية في ليبيا لإدارة المليشيات في حربها على الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير حفتر. ‬

ولتركيا أهداف عدة في ليبيا، أولها الاستلاء على مقدرات الشعب الليبي، في محاولة لإنعاش الاقتصاد التركي المتدهور في الآونة الأخيرة، ثانياً إعادة تفعيل اتفاقياتها الموقعة سابقًا مع حكومة الزعيم الراحل معمر القذافي، ثم إعادة الإسلام السياسي للحكم والمرتبط أيدولوجيا بقطر وتركيا، الأمر الذي يعتبره اردوغان أستعادة لأمجاد الإمبراطورية العثمانية القديمة، أخيرًا التحكم في الأمن القومي المصري ومعاقبة الدولة المصرية تحديدًا على اسقاطها لمشروع اردوغان العثماني، باسقاط جماعة الأخوان المسلمين في مصر، ما دفع لهزيمتهم وتراجعهم في عدة دول أخرى، بل تحطيم شعبيتهم في الجولة الجديدة من الحراك الشعبي في كلًا من الجزائر والسودان . ‬

وحول الدور المصري في ليبيا، لا يمكن اعتبار دور القاهرة رئيسيًا في الأزمة الليبية، نظرًا لتغيبه عن المشهد الليبي، منذ صناعة قرار مجلس الأمن الدولي ١٩٧٣، بسبب الظروف السياسية والأمنية التي كانت تمر بها مصر، على إثر سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، و صعود جماعة الأخوان المسلمين إلى الحكم، واستمرار الفوضى في البلاد حتى الثلاثين من يوليو ٢٠١٣، أي أن مصر كانت غائبة بشكل شبه تام عن المشهد الليبي طيلة ثلاث سنوات كاملة، صنعت خلالها قطر وتركيا المليشيات المؤدلجة، و نهبت فيها أموال الدولة الليبية على خطوط طيران تابعة لرجل إرهابي اسمه عبد الحكيم بلحاج. ‬
حينما فاقت مصر من غفوتها وجدت المليشيات الإرهابية على حدودها الغربية، وكان أمامها السيناريو السوري و محاولة إسقاط الدولة عبر الحدود مع تركيا، بإدخال المجموعات الإرهابية المدربة والمسلحة عبر أجهزة المخابرات التركية، وهنا يمكن العودة لاعترافات معظم عناصر تنظيم " داعش" في ليبيا بعد إلقاء القبض عليهم، وسؤالهم عن كيفية دخولهم للأراضي السورية، فنجد الإجابة واحدة تقريباً، عبر تركيا، وهذا يثير استفهاما عن تركيا الدولة الإقليمية الكبيرة واجهزتها الأمنية، هل يمكن دخول عشرات الألاف عبر أراضيها لسوريا دون كشف أمرهم! ‬

بالطبع لا يمكن إلا في حالة واحدة تتمثل في تولي تركيا مسئولية شحن تلك الجماعات من كل دول العالم إلى سوري، وأبسط دليل على ذلك ملف الصينيين الإيغور في سوريا. ‬

من هنا وجدت مصر نفسها أمام تحديات الملف السوري وإسقاطها عبر الحدود، فعززت علاقتها بحركة حماس الفلسطينية، والرئيس عمر البشير في السودان وقتها، ولم يبق إلا الحدود الليبية، ومع انعدام الشرعية وفرط الكيانات الموازية في ليبيا، ظهر المشير خليفة حفتر كرجل ذو خلفية عسكرية لشن الحرب على الإرهاب، فدعمته القاهرة مع الاحتفاظ بعلاقتها مع جميع الأطراف، منها البرلمان الليبي بقيادة عقيلة صالح، والمجلس الرئاسي وقتها بقيادة فايز السراج. ‬

وقد سعت مصر مراراً في تقريب وجهات النظر بين الكيانات الثلاث ودعم الجهود الدولية في التوصل لحل سلمي يسمح باستعادة الدولة الليبية، لكن تضارب المصالح بين الدول الكبرى، فرنسا وإيطاليا زاد من تعقيد الأزمة، بالإضافة لاتخاذ هذه الدول المليشيات سلاحًا مع دول إقليمية لحفظ مصالحها وحماية نفوذها على الأرض، وفي ظل الصراع الدولي والتناحر الإقليمي، و عدم التزام السراج بالاتفاقات الموقعة بينه وبين حفتر في أبو ظبي، لم يكن أمام مصر سبيل سوى تقديم الدعم السياسي للمشير خليفة حفتر في عملياته العسكرية للقضاء على الإرهاب. ‬

وبناء على ما تم ذكره سابقًا من صراعات سياسية واقتصادية دولية، ومشاريع إقليمية تركية قطرية تستهدف الانتقام من مصر، الدولة الوحيدة التي نجت من سيناريو فوضى ما يعرف بالربيع العربي، نجد أن من حق مصر وفق القانون الدولي اتخاذ كل ما تراه مناسبًا لحماية أمنها القومي، بما لا يضر مصالح الأشقاء من الشعب الليبي، علمًا بأن الدافع المصري لا يرتكز على أي مصالح اقتصادية، ولم تتورط مصر في أي ملف يستهدف أموال الليبين أو مقدراتهم، فمصر ليست طرفًا في صراع النفط، أو غيره من الملفات الاقتصادية محل الصراع، بل تهدف لحفظ الأمن القومي المصري الليبي، ما يجعلها نظيفة اليدين في ليبيا، على عكس فرنسا ساركوزي وإيطاليا وتركيا وقطر، البعيدون جغرافيًا عن الدولة الليبية، ولكن تحكمهم المصالح الاقتصادية والسياسية حتى لو جاءت على الحقوق الإنسانية للشعب الليبي. ‬